الجمعة، 19 مارس 2010



الغناء في الظلمة

والطائر النهاري

قبل أن نبحث مع الدكتور محمد المخزني عن الأستاذ ميشيل ، فكرت في سرد الحكاية بداية من نقطة تاثير الانطباعات الأولية للقاء مع الأديب الدكتور محمد المخزني ..

فهذه هي المرة الأولي التي التقي فيها بالدكتور وجها لوجه بمكتبة أكمل بالاسكندرية مساء الأحد 14/2/2010 ، وهي النقطة التي شغلت حيزا من اللقاء مع سؤال الدكتور محمد العبادي عن تأثير الانطباعات الأولي لسلسلة الاستطلاعات المصورة التي تبنتها جريدة العربي الكويتية ، وكان رائد فكرتها الدكتور محمد المخزجي ، وزار من خلالها معظم مناطق شرق ووسط آسيا من خلالها..

العقاد علمني كيف أحب الزهرة وأحب الوطن ..

الجمال رمز الانسان الذي يجيد العمل ويشعر بحقوق الآخرين واحترام النفس والحق والعدل للجميع ..

وبهذه العودة البديعة للأصالة تتدفق فعاليات الثقافة الجميلة ، ومعها ، ورغم عصر الصورة وهيمنة شبكة الأنترنت والفضائيات علي رؤي الناس والعصر ، تظل حميمة ودفء اللقاءات الإنسانية تحمل وهجها الخاص ، هذا ما طرأ علي خاطري بعد دقائق من جلوس الهدوء الجميل والوجه البشوش إلي المنصة وكأنني أعرف الدكتور محمد المخزني منذ فترة طويلة وسري دفء المشاعر الانسانية وحديثه الشجي يطربني وهو يقول لو لم أكن من مدينة المنصورة لوددت أن أكون سكندريا ..

الأنطباع الأولي كان الدهشة ومع رهافة قميص الشوق ومتانة نسجه يطول الاندهاش وكان من المنطقي أن يستمر الضيف في حديث الذكريات وحكايات تجربة حياة تحتاج إلي وقفات فاحصة ومتأنية ..

بدأت حكايات الدكتور مع بدايات التعيين ، تارة بالحجر الصحي بالميناء مع بداية التطبيع المصري الاسرائيلي ، ومشاعر وطنية استمرت مع استمرار تمسكه برأيه وعدم مصافحة القتلة ، والتي غلبت بحماسها علي شباب الحضور وقد مثلت ظاهرة تحتاج للتأمل ، وأبكت أكبرالحضور سنا وقد قارب علي السبعين عاما وهو يدعو بالصحة للدكتور الذي أعاده قارئا من جديد ، بعد أن عاش فترة ضبابية متصفحا للجرائد والمجلات السيارة فحسب ..

وتارة بمستشفي النبوي المهندس للأمراض العصبية والنفسية بالمعمورة ، وكيف تعرف بميشيل الانسان الذي تآلف معه في السكن بأبي قير ..

وأعلن الدكتور رأيه بصراحة في مسألة التدين وعن اعتقاده بأن كل الديانات السماوية تؤدي الي اللـه والي التوحيد .. وحتي الديانات الأفريقية التي درسها تؤدي أيضا إلي العظيم الأعظم ونوع من التوحيد أيضا ..

وهمس لنا عن سعادته بالتواجد بالاسكندرية وشعوره بالأمان وسطنا .. وشبه حكاياته كالغناء في الظلمة والذي ينطلق من القلب بعيدا عن القهر والرياء .. وكيف يبلغ به براح الشوق للمدينة وجمال البشر والبيئة التي ينشأ فيها البشر وذكريات بحري وابو العباس وابو قير .. وكيف يدفعه ذلك إلي ركوب الباص صباحا الي الاسكندرية والجلوس علي الكورنيش ثم يغادرها إلي المنصورة مع آخر أوتوبيس حتي أطلقوا عليه الطائر النهاري السكندري ..

الظاهرة التي حيرتني هي تواجد الشباب السكندري الغالب علي اللقاء ـ يتقدمه شباب إطلالة والأديبة ايمان عبد الحميد التي أدارت اللقاء ـ وأسئلة مطروحة بذكاء غطت كتابات الدكتور المخزنجي وقصصه قديمها والحديث وتأثرها بتخصصه العلمي ، وأعمدته الصحفية في الدستور المصرية ثم الشروق ، والعلاقة مع يوسف ادريس والأسرة الأدبية وحكاية الاستمرار في كتابة القصة ومتي سيكتب الرواية ..

أعلن الدكتور رأيه الصريح أنه مع العمل الجيد بصرف النظر عن المسمي الأدبي .. وأضاف أنه لا يحب القوالب والمسميات من قصة قصيرة ورواية ومقال حيث يفضل أن يعتبرهم جميعا ضمن " مملكة السرد "

وقدم شكره لجريدة العربي الكويتيه وكيف أتاح له برنامج استطلاعات مصورة فرصة الاستفاده الإنسانية والثقافية من خلال سفره إلى بلاد الشرق الأقصى مثل الهند الصينية وكمبوديا وميانمار ولاوس، وكذلك معظم دول أفريقيا و جنوب الصحراء الكبري ، وكيف ساعدته كثرة الأسفار فى صقل موهبته وإثراء محصلته المعرفية ..

ويأتي الاعتراف مصاحبا للشخصية النبيلة وهو يقول أنه تعلم في مدرسة العربي الكويتيه الكثير ، بجانب الدخل المادي ، داحضا مزاعم شاعت بيننا أن الخليج يعطي أموالا فقط ..

ونأتي إلي ردود فعل القراء وكيف اشترت إيمان عبد الحميد قصص الآتي بكل مصروفها.. *وتضم قصص السباق وذبابة زرقاء والأوتاد والعاصفة الترابية وعدو الشمس والرجل الذي نسخر منه واليمامة المضروبة والخنازير وقمرها الذهب والآتي وعنبر البنات وبضع زهرات والفدائي حمزة وفي الليل الصقيع وفوق سطح ساخن ومذبحة النوارس ..

وذكرت أديبة أخري حكاية حميميمة الصوت التي قرأتها في قصص غرق جزيرة الحوت والبئر وذئاب ، وكأنها الآن تألف صوته ، وذلك تعقيبا علي ما قاله المخزنجي من حكايات الأصوات التي كان يسمعها ليلا عندما كان يسن بأبي قير وكيف حكوا له حكاية المعتقل القديم بالمنطقة وغناء السجناء ..

قال عنه الأديب العملاق نجيب محفوظ في مجلة "عالم الكتاب" قصص قصيرة جدا ولكنها ممتازة, بحيث إنها تكتب في أضيق حيز , ولكن كل قصة لها معنى مترام واسع , وهي تدل على مقدرة فنية فــــــذة في عالم القصة القصيرة " .

.. إنه الأديب الطبيب محمد المخزنجي الذي يحرص علي الموازنة بين تغريده خارج السرب كما سألته ولكن بشرط عدم الابتعاد عن السرب كثيرا ..

وجاء غياب اسماء لامعة في القصة والندوات الأدبية بالاسكندرية ـ بخلاف أ. أدول حجاج ـ عن زحام اللقاء ووقوف البعض مثيرا لعلامات الاستفهام ..

حاز كتاب الداء بلا دواء مع إعادة النشر للإصدارات السابقة علي مساحة كبيرة من اللقاء في وجود عدد من الأطباء وحكايات مثيرة عن الطب البديل وخلطات الأعشاب المنتشرة والعلاج حتي بالعفاريت وكيف ساهم الاعلام في ذلك مرورا بجهل التعامل مع الأبر الصينية والتي يقضي الطبيب المتخصص سبع سنوات في دراستها بالصين قبل أن يسمحوا له بالتطبيق ..

يقول الدكتور المخزنجي أن هذا الأمر خطير من تحديد الكميات بدقة ثم عمليات التجهيز والتخزين وكلها تؤثر علي سلامة الجسم البشري ، ثم إن الطب الحالي وأدويته هي خلاصة نباتات وهناك مافيا للأدوية تسخر كل النباتات المتاحة في الدنيا لحساب تصنبع الأدوية ولن تترك مجموعة من الهواة لعرقلة عملها ومكاسبها ..

ويستعرض الكتاب ألواناً من الوسائل العلاجية المثيرة للفضول مثل العلاج بالصوت وبالنحاس الموضعي وبالتصوير وبالتنويم وبالنقاط الصينية والخضراوات والفاكهة وشذا العطور، رافضاً مصطلح " الطب البديل" عن الطب الحديث ولكنه يقدم طب متمم أو مُكمل ..

ووتتغير قسماته وهو يشرح كيف تغيرت سلوكيات بعض الناس في مصر ،وسهولة السير في الطريق المعاكس ، والتحايل علي القانون الذي أصبح سهلا ..

ونتوقف لالتقاط الأنفاس مع ثراء الحديث الذي جاوز الوقت المسموح به دون أن يشعر أحد فقد كان اللقاء مفتوح مثل القلب تماما مع كاتب يؤمن بالمقولة ( معركتي مع الحياة الا اتخلي عن سنتيمتر واحد من شخصيتي ) ..

وفي لقطة تقليدية قام بتوقيع واهداء لكتبه مع جمهور الحاضرين ..

محمد المخزنجى , القصص القصيرة الخاصة

1-
ومع ذلك .. ورغم ذلك

قبل أن أطفىء النور لأنام ، أحرص على جمع كل ما يمكن أن يكون متناثرًا فى الحجرة ومكشوفًا أمامه ، هذه الأشياء المدببة والحادة والقاطعة ، كالمدى ، وشفرات الحلاقة ، وسكين فتح الكتب ، حتى الأقلام ، باختصار ، كل ما يمكن أن يقع فى يده لحظة يمضه الأرق ويستخدمه فى ذبحى من عند حبل الوريد ، أو طعنى فى الموضع الضعيف المؤدى مبباشرة إلى القلب - من بين الضلوع - كما أتخيله دائما يفعل.
أجمع كل ذلك وأضعه فى أحد أدراج الخزانة ، ثم أغلقه ، وأوصد عليه الضلفة ، وأخفى المفتاح فى كيس الوسادة تحت رأسى ، هذا ، حتى يطلع الصبح ويغمر النور الغرفة فأستيقظ وأكون منتبها إليه .. ذلك الانتباه الذى لم يقف بى قط على حد كراهيته ، فأنا أوقن أنه لا يكرهنى ، بل على العكس ، أوقن أنه يحنو على حنوا عميقا عمق الشفقة التى يكنها لى من الاستمرار فى مثل هذه الحياة ، والتى قد تكون دافعه الوحيد للفعل ، الفعل الذى ظل رغم ذلك يرعبنى.
أتأكد من دافعه الشفوق ذلك عندما تحين اللحظة المعتادة ليواجه كل منا الآخر قبيل الخروج إلى الشارع. وفى نور الصبح الأبيض المزرق المتدفق عبر النافذة أتمكن من رؤية العذاب المترقرق فى عينيه الصاحيتين لتوهما بعد نوم مضطرب .. نوم ممزق بأحلام الرغبات المحبطة ، والمخاوف التى تستحيل دوما إلى كوابيس.
أنظر فى عينيه مباشرة بإحساس يتصاعد بالشفقة إلى حد الابتسام ، فيبادلنى الابتسام الشفوق ، وما يلبث ابتسامنا المتبادل حتى يأخذ برهة شكل الرضا ، هذا الرضا الذى يَسرُّ دون كلام أن : مع ذلك ، ورغم ذلك ، يظل وجودنا فى هذه الحياة على تكاثر آلامها وتضاؤل وابتعاد أصغر الأمانى فيها .. يظل جديرا ببعض الفرح .. على الأقل فرح التنفس من هواء الصبح الطازج كل يوم من جديد. أليس كذلك ؟
أليس كذلك ؟ أسأله بإيماءة مبتسمة فيجيب على مبتسما بمثلها ، ثم أكرر سؤالى بصوت مسموع وأنا أستدير متأهبا للخروج ، لكن إجابته لا تأتينى . فيبدو لى وكأنه تبخر مع سريان تيار الهواء الصباحى الذى اكتسح كتمة الغرفة آتيا من النافذة المفتوحة إلى الباب المفتوح.
وأفكر فى أنه قد اختفى أيضا من صفحة المرآة التى استدرت للتو عنها .
د.محمد المخزنجى

***
2-
ذبابة زرقاء
أكره الذباب ، وأكره بالذات طنينه ، وتكون كراهيتى لهذا الطنين غير محدودة ، وأنا طبيب استقبال مناوب ، أجلس ضجرًا فى فراغ الانتظار بالليل وبياض الجدران يحاصرنى . كان طنينها بحجم طنين مائة ذبابة مجتمعة دخلت تطير فى المكان حولى . نهضت أخلع معطفى مغيظًا ، وضربتها به ، فهوت .. وكدت أرفع قدمى لأسحقها ، لكنى وجدتها ذبابة كبيرة ملونة ، فتركتها تلم نفسها ، وتعاود الطيران . أحضرت كأسًا زجاجية ، وحملت معطفى أطاردها ، وعندما كانت تطير فوق المنضدة ضربتها ... وقعت ، وقلبت عليها الكأس ، ورأيتها من خلال الزجاج كبيرة وعيونها كنصفى كرتين من بلّور متلاصق ، يعكس فى تقلبه شتاتًا من ألق الألوان ، وكانت على بدنها مربعات منمنمة أيضًا ، تتناسق كأنها رقعة شطرنج ، وتتماوج تحت جناحيها السلوفانية بلمعة معدنية زرقاء . أخذت الذبابة فى محبسها تتلمس مخرجًا .. تتحرك فى اتجاه ، فيصادفها زجاج الكأس ، وتكرر المحاولة فى اتجاه آخر ، ثم فى اتجاهات أخرى ، ولا تكف ، ولكننى سئمت تكرار ذلك . أحضرت بخاخة " البنج الموضعى " ورفعت الكأس قليلا ، ثم أعدتها بعدما رششت بخة كثيفة بداخلها ، ورأيت الذبابة الزرقاء تُجن فى بحثها عن مخرج ، ثم توقفت وبدا أنها تموت . تحركت فجأة حركة دائرية وهى تذبذب مؤخرتها ، ومع كل ذبذبة راحت تضع بيضة .. بيضة صغيرة كرأس دبوس ، ملساء وبلون " الكريم " .. بيضة ، اثنتين ، ثلاث ، أربع ، خمس .. ست بيضات وضعتها . وسكنت


***
3-
جريدة دة الصباح
وأنا أعبر الطريق إلى الرصيف الآخر حيث الكشك ، تذكرت الرجل الأسمر النحيف بائع الجرائد ، وكيف كانت ميتته صامتة ومنكسرة ، وقلت فى نفسى: لا بد أن الشاب الواقف بمكانه أمام الكشك هو ابنه ، وقد كنت أراه يرتدى ستةر الجل الرمادية الكالحة نفسها ، والرأس مدسوس فى الكاب القديم ذاته.
ضايقنى أن أمد يدى بالنقود طويلا ويتجاهلنى الولد ، وتذكرت الرجل وكيف كان وجهه الطيب يبش لى ، ويحتفى ، ويعطينى ما أطلب - أنا زبونه القديم - قبل الجميع ، ورحت أزفر محتجا متعجلا الولد ، مكررا عليه بضيق: " يالله يا ابنى . يالله يا ابنى " ، واستغربت أنه يمسك الجريدة التى أطلبها ، ويده قريبة من يدى التى تمتد بالنقود ، ومع ذلك يتردد ، ولا يعطينى.
وكمنيتذكر شيئا ذا أهمية ومعنى مر به للتو دون انتباه ، رفعت وجهى ملسوعا فاستبنت الملامح فى سمرة الوجه أمامى ، وعرفت أننى لم أكن مصغيا لصوت الهمس المتوسل الكسير الذى ظل يلح على سمعى كلما تعجلت: " أنا بنت يا أستاذ. أنا بنت. أنا بنت ".
د. محمد المخزنجى


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق